الجمعة، 2 سبتمبر 2011

ليلة وجع ..

ليلة وجع ..

فريز :
التاريخ جامد من شدة الألم  ..
أرقامه تتحرك وأحداثه ثابتة تعيد نفسها بالساعة والدقيقة والثانية .. حتى لقطات الأكشن جامدة مملة لا إثارة فيها سوى صدماتها .العيد بالنسبة للجميع كان فيلماً وثائقياً مؤلماً .. لا ترتيب فيه ولا في لقطاته و أحداثه..
اللقطة المقربة :
تبدأ بـ ( عيد ) علي الشيخ  .. بـ ( عيد سترة ) .. بـ عيد البحرين !
جرح علي .. جرحنا جميعاً :
لم الخوف عليه .. ؟!
سيكون في استقباله شهيد سار الصغير " سيد أحمد شمس " .. لن يلعبا , ولن يدرسا , ولن يحلما بشيء .. كل ما في الأمر أنهما هناك ليرسما خريطة الوطن الجديد .. سيساعدهما في ذلك مهندس الشهادة " علي المؤمن " مع بقية الشهداء ..
آه يا وطن من جراحكَ ومن أوجاعك .. ألف آه :(
اللقطة الانتقالية :
ليلة عيد ..
الساعة 6:15 مساءً من يوم الثلاثاء الموافق 30 أغسطس 2011
خرجت أحمل آخر إفطار متوجهة إلى منزل جدي .. حركة الشارع غريبة.. الطرق مغلقة .. الشباب على استعداد تام لمواجهة قوات الشغب .. بدت قريتي كئيبة جداً .. وصلت منزل جدي من الباب المطل على القرية كان المنزل هو الآخر كئيب .. لا أحد فيه .. " تمنيتُ لو أن جدتي  رحمها الله تستقبلني " ..وضعت الافطار على الطاولة .. فضولي دفعني لأن أفتح الباب الثاني المطل على إسكان القرية .. فتحته وكان وضع الشارع فيه أسوأ .. الشوراع مغلقة باحكام .. وقفتُ على أعتاب الباب وكأن أحدهم طلب مني ذلك .. أمامي شارع فرعي فجأة تحول إلى معكسر .. كل شيء كان يدل على قرب مصيبة ما .. نظرت إلى يميني وإذا بقوات الشغب تلاحق مجموعة من الشباب .. كان يتقدمهم رجل مسن في طريقه إلى المسجد .. أحدهم صرخ : " حجي اركض ضربوا .. اركض حجي " .. لكنه لم يحرك ساكن !
صوت الطلق قوي .. والقوات تقترب منه .. وأنا مازلت واقفة أناظر ما يحدث .. كنتُ أريد أن أصرخ .. كل شيء كان ساكناً أطرافي وصوتي .. قنبلة صوتية من بعيد .. اقتربت وكادت تخترق ظهره .. ما الذي حدث !
السيارة .. السيارة الزرقاء أنقذته .. استقرت على زجاجها تلك القنبلة وفر أخيراً هذا العجوز .. لقد أسقط قلبي أرضاً !
أغلقتُ الباب بقوة .. تمهلتُ قبل الخروج من الباب الثاني .. وبعد لحظات خرجت .. الشمس غابت تماماً.. كان صوت الأذان حزين .. يودع شهر الله .. سقطت مني دمعة .. تذكرتُ أنها ليلة العيد !
...
عدتُ المنزل وخرجتُ وبرفقتي ابنة عمي متوجهتان إلى المسجد .. حصل أمر آخر ..
صوت الأذان اختفى وهدأ الشارع .. لكن ما الذي تخفيه الظلمة لنا ؟!
القنابل المسيلة للدموع .. عيوني تحرقني .. وقلبي كذلك .. هناك حركة غريبة بالقرب من المسجد .. اقتربنا أكثر .. أحدهم كان يحاول الفرار من قوات الشغب .. توقف أرجوك .. توقف .. أخذنا نضرب على صندوق سيارته .. توقف ..أطرافي ترتعد .. إنهم أمامي ليس خوفاً منهم .. لقد كان هذا الشاب من شدة خوفه يحرك السيارة إلى الخلف .. يرجع ويرجع وأنا مع ابنة عمي نودع الحياة !!
برررررررريك أرجوك  !
انتبه أخيراً .. تنفسنا الصعداء .. كان الموت أمامنا .. بقي من عمرنا القليل .. اقترب من لحظة دهسنا .. شعرتُ بأنه لم يكن بوعيه .. لم كل هذا ؟!
فررنا إلى المسجد وغاب بسرعته الجنونية عنا ..وإذا بصوت الطلق يرتفع  .. إنهم يضربون بجنون ..
...
انتهينا من الصلاة .. كان المسجد شبه خال من المصلين .. الأوضاع لم تسمح لأحد بالخروج من منزله منذ عصر ذلك اليوم ..
وقفت في نصف الطريق .. حملتُ هاتفي أصور مشاهد الظلمة والوحشة والكآبة والحزن ليلة العيد .. وقلت : والله ليلة عيد !!!
كنا نتحدث بمرارة عن ألم هذه الليلة .. شعرنا أنا وهي بغصة .. اقتربنا إلى الطريق المؤدي إلى المنزل .. طلبتُ منها الوقوف قليلاً معي لألتقط آخر صورة .. رفعتُ هاتفي وكنت غارقة بتفاصيل الصورة .. أخشاب وقمامة وقمر حزين وعتمة .. والعنوان ليلة عيد !!
فجأة اختفت هذه التفاصيل وجدتُ الصورة تبدلت إلى مجموعة من قوات الشغب .. تناظرني .. زعيمهم يتقدمهم , أسود طويل ,ضخم ... لم أحرك ساكن .. طلبتُ بكل هدوء من ابنة عمي الالتزام بالصمت .. أنزلت الهاتف .. رفعت رأسي .. حاولتُ السيطرة على نفسي أكثر .. صرخت ابنة عمي " دخلي البيت بسرعة " ..
يا الله .. لم كل هذا ؟ ألقى زعيمهم نظرته الأخيرة علينا وحرك طرف عينه متجاهلاً ما رآه .. وانصرف !
تنفسنا الصعداء , وحمدنا الله !
...
الساعة السابعة والنصف مساءاً .. لا شيء يدل على العيد ..
الطائرة تحلق على علوٍ منخفض .. ( موسيقى ليلة العيد )
أبواق  وطلق وصراخ يدوي في القرية ... كنا نصعد السطح قليلاً لنسمع ما يدور بين قوات الشغب والشباب من حديث مضحك مبكي .. " الحمدلله أن هذا الشعب يحمل من الوعي ما لا يحمله أي شعب آخر " ..
كنا نسمع أصوات تكسيير السيارات تزداد بالقرب من منطقتنا .. لم تكن مفاجأة بل كانت صدمة .. الأمر وصل إلى العبث بمسجد القرية هذه المرة .. دخلوه .. عبثوا به وكسروه و بخروه بمسيلات الدموع واعتقلوا قيمه ( مؤذن القرية ) انتقاماً من القرية نفسها !
..
31 أغسطس 2011 – الأربعاء / يوم العيد الحزين
اقترب الفجر .. ولا صوت للدعاء .. بقيتُ أنتظر مؤذن القرية .. ومازال الوضع يتأزم أكثر وأكثر .. ظننتُ بأن الأذان سيقطع مشوار التعب ليلة العيد .. سنشعر بالعيد !!
أذن المؤذن ولكن صوته مختلف .. فالأول غاب خلف السجن وهذا بديله .. المنطقة المحيطة بالمسجد تحولت إلى ثكنة عسكرية في دقائق .. لكنها لم تقاوم تكبيرات القرية فانصرفت سريعاً .. ظننتُ أن الفجر سيحمل آية أمل لي ولوطني وشعبي ..
لم نذق طعم النوم حتى صلاة العيد .. وصلني خبر أنه لا يوجد صلاة العيد في مسجد القرية وذلك لما تعرض له من تخريب .. شعرتُ بالأسى .. فالعيد بالنسبة لي صلاته  .. أعشقها " اللهم أهل الجود والجبروت ....................."
جلستُ أنتظر سماع المؤذن من جديد .. وإذا به ينادي : الصلاة يا عباد الله .. الصلاة .. الصلاة يرحمكم الله الصلاة .. ابتسمت وحمدتُ الله على ذلك  ..
خرجت مصدومة .. هذا يوم العيد !
الجو كئيب والشمس حزينة وشوارع القرية لا تحتاج لوصف .. ومنظر السيارات وووووووووو !
أما المسجد فقد بخره رجال الأمن بما يليق بالمناسبة :(
المقبرة :
كل عام وأنتم سعداء يا أهل لا إله إلا الله .. حتى المقبرة بخروها ليوم العيد ونثروا فيها زهور المطاط بأنواعه .. حدثتُ والدي وحدثني .. " هذه الأيام بالتحديد أشعر بحاجتي إليه أكثر من أي وقت مضى .. حنيني إليه يمزقني في كل لحظة "  
لا أجواء فرح ولا سعادة ولا أبواب مفتوجة ولا أطفال في الشارع ولا شيء وكأن العيد لوحة مرسومة تحتاج لمن يلونها .. وصولاً إلى خبر استشهاد علي !
على فكرة المواجهات مازالت مستمرة وستستمر ولا نهاية لها بعد أمس !
هذا والله يوم العيد !

الوجع الثاني لثاني أيام العيد - 1سبتمبر 2011 الموافق يوم الخميس
رحيل المناضل عبد الرحمن النعيمي .. قررتُ قراءة تاريخه ابتداءً من الغد ..
Cut !
تأخر الوقت .. وانتصف الليل جاء العيد وذهب , طرق قلوبنا بمطرقة من نار , حرقها وتنفس دخانها وقهقه بأعلى صوت ومضى .. تركنا للوجع .  
نهاية الفيلم مفتوحة .. فجأة تحول من فيلم وثائقي قصير إلى سينمائي طويل لا نهاية له .. كل الأسماء غير معلنة .. لا الكاتب ولا المخرج ولا المنتج ولا أي شيء .. الأبطال وحدهم يظهرون علناً كلما اشتدت عليهم مصائب هذا الوطن ..
يبقى الأمل ألماً نتمسكُ به علناً ..

ليست هناك تعليقات: